أذكر وأنا في العاشرة من عمري كانت الحياة بسيطة جدًا، لكنها مبهجة، بجوار منزلنا أرض ساشعة بلا مبان أو سيارات، ولا أصوات زحام مزعجة، فراغ كبير، مساحة لا حصر لها، نلعب أنا وإخوتي والجيران بسعادة نقوم بتفريغ طاقتنا بالجري ونط الحبل، نلعب ساعات طوال ولا نشعر أبدًا بالملل، لدينا ألعاب كثيرة وأفكار تجعلنا سعداء، نخطط الأرض بالطباشير الأبيض لتنسجم خطواتنا عليها وتتعالى ضحكاتنا، كنا نستنزف طاقتنا باللعب ونفوسنا تُبنى وتقوى..
ومضت السنوات حتى امتلأت المساحات الفارغة بالمبان والزحام والأصوات المزعجة فلم يتبق لأبنائنا أماكن واسعة للعب، بل ظهرت الألعاب الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي لتتلاشى معها السعادة الحقيقية..
أصبحت أشفق على أطفال هذا الجيل فلم يعرفوا معنى السعادة الحقيقية مثلنا، همهم الوحيد هو الجلوس أمام شاشة صغيرة للعب عليها، وأصبحنا نحن جيل الثمانينيات نبحث عن مُتنفس حقيقي وسط هذا الصخب والضجيج، وربما أحيانا تأخذنا “حلاوة بدايات” التكنولوجيا فيتقوقع بعضنا في هذا العالم الافتراضي لدرجة تصل به إلى حد الاكتئاب لا يريد أن يرى أحدنا على أرض الواقع ليجد نفسه مستمتعًا بهذا الأمر بل وصلنا لمراقبة بعضنا البعض عبر تلك الشاشة اللعينة، فأصبحت هي مركز التواصل وأصبحنا جميعًا صغار وكبار نرتدي “نظارات العالم الافتراضي” ونتلذذ به، وتركنا عالمنا الحقيقي.
وأنا صغيرة كنت أعتقد أن هناك أشخاصا بعينها تحكم عالمي هي من تجعلني أشعر بالسعادة وأيضا بالحزن، فعندما تخاصمني صديقتي المفضلة ينتابني الشعور بالحزن الكبير، وتبتسم لي الحياة حينما تصالحني، مشاعر بريئة فياضة كنت لا أرغب في التعرف على صديقات غيرها من باب الوفاء هكذا كانت تحدثني مشاعري وعقلي الصغير، فإذا تواجدت تلك الصديقة أكون في غاية السعادة وعندما تهملني أتحول لطفلة حزينة كئيبة، وعندما انتهت الصداقة البريئة تعلمت أن الحياة ليست هكذا هناك مشاعر جديدة ومتغيرة، ولكن بعد مرور كل هذا العمر، أجد الأمر يتكرر بنا بشكل مختلف، التكنولوجيا في حياتنا تجعلنا نتواصل مع الجميع في كل مكان وأي وقت وربما مع أشخاص لا نعرفها ولم نراها من قبل وجها لوجه، فأصبحنا منغلقين داخل هذا العالم، مرتبطين به بشكل كبير وسعداء بوجوده لدرجة تجعلنا نكره واقعنا ونرفضه، وربما نشعر إننا لا نستطيع أن نصل للشعور بالسعادة والرضا بدونه، فحينما ينقطع الإنترنت بضعة من الوقت يسيطر علينا شعور بالتوتر وربما الاكتئاب، فأصبح هذا العالم يسيطر علينا وعلى أولادنا سيطرة كاملة.
تقول جامعة “بينسيون” في دراسة أجرتها عام 2016 إن العلاقة بين زيادة وقت استخدام الفيس بوك، ووسائل الاتصال الاجتماعي الأخرى كـ(انستجرام، تويتر، تيك توك، ويوتيوب،…) واحتمالية التعرض للاكتئاب هي علاقة تناسب طردية وقد تؤدي إلى تدمير الصحة الجسدية والنفسية، خاصة المراهقين، كما يصنف الاتحاد العالمي للأطباء النفسيين مرض الاكتئاب كثاني أخطر مرض في العالم ويقدر عدد المصابين به بنحو 300 مليون شخص كما ينبه إلى زيادة نسبة المنتحرين 500% أي ينتحر سنويا مليون شخص بمعدل شخص كل 28 ثانية.
هنا الأزمة ليست مرتبطة بالصغار أو المراهقين فقط، نحن الكبار أيضا في أزمة حقيقية إذا لم ننتبه لها نكون أول المتضررين، علينا فك العزلة الافتراضية عن أنفسنا وأبنائنا، علينا الاقتراب من أصدقاء نعرفهم على أرض الواقع، ربما تحتاج لتنظيم مقابلة بأصدقائك القدامى، وكما يقول أحد المشاهير “فاضي شوية نشرب قهوة في حتة بعيدة”.. اذهب يا عزيزي واشرب فنجان قهوتك مع من تحبهم، جدد حياتك بعالم واقعي وحطم نظارة العالم الافتراضي التي ترتديها، مارس أنشطة واقعية، رياضية، فنية، ثقافية، وأعمال خير تطوعية، أنقذ نفسك وأبناءك قبل فوات الأوان.