كل يوم اسمعها مرارا وتكرارا وبنفس الصوت وبنفس طريقة الالقاء وبنفس النظرات الموجهة الى السماء وكأنه يشهدها على مايقول . كانت هذه الجملة هى كل مايقوله احمد ذلك الشاب الوسيم صاحب العيون الجميلة التى تأخذك الى براح وفضاء مترامى الاطراف يعيدك الى صاحب هذين العينين الجالس ليل نهار فى مكانه الذى لم يتغير صيفا او شتاء منذ اكثر من عشر سنوات هى سنوات اصابته بغياب العقل او بأن يصفه البعض بالطيب ، وبعضهم يقولون انه مبروك او مبارك واخرون كثر يتحدثون عن قصته المختلفة الرواية والجذور فالبعض يقول انه كان سليل اسرة عريقة وفى يوم اصطحبه ابيه وكل اسرته الى مسقط رأسهم فى الريف ليزوروا الاهل والاحباب وحينها قام هو بأخذ حمام من عمه واتهمه العم بالسرقة وصال الاب وجال واكد ان ابنه لايفعل ذلك ابدا ولكى يؤكد براءة ابنه جعله يحلف على المصحف انه برىء وحلف الابن وعادوا الى القاهرة حيث مستقرهم ومن ساعتها واصبح الابن على ماهو عليه الان ، وآخرون ينفون تلك القصة ويقولون انه كان طالبا فى واحدة من كليات القمة وفى السنة النهائية وقع فى غرام فتاة على غير دينه وهى ايضا بادلته الغرام والحب واخبرت اهلها بذلك وعندما علموا انه ليس على دينهم طالبوها بأن تحضره اليهم ليتعرفوا عليه ولكنهم كانوا يستعدون له بالسحر الذى اصابوه به ليصبح مجذوبا ، واخرون يقولون انه كان يحب فتاة حبا ملكه وأسره ولم يوافق اهلها او اهله للفوارق الاجتماعية فانتحرت فتاته بأن ألقت بنفسها من شقتهم بالدور الخامس وعندما علم برحيلها جن جنونه وذهب عقله ..
والبعض يقول ان حريقا التهم بيته واسرته كلها وكان هو غير موجود بالبيت وحينما عاد ووجد كل دنياه انتهت فقد عقله …حكايات كثيرة رويت عنه ولايعلم احد مدى صحتها ولكن فى النهاية الكل يعمل له الف حساب ويخافون اذا قال جملته المعتادة… وهى هتروح من ربنا فين ، وخاصة حينما يمر احدهم من امامه فقد كانوا يرون انه مكشوف عنه الحجاب وان الملائكة اطلعته على سرهم وانه عندما يطلق هذه الجملة على الملأ فهى اشارة للعابر وتعريف للسامعين بأن هذا العابر له ماله وعليه ماعليه ممن لايعلمه احد سوى الله وملائكته.
واحمد.كانت ملامحه تأسرنى وتجعلنى اسعى للتقرب منه والجلوس بجواره وربما التبرك به كما كان يفعل الكثيرون ، لم يكن يقول جملته المعتادة عند مرورى من امامه ولاجلوسى بجواره رغم اننى بشر واقترف ذنوبا ككل البشر ، وكان عدم قوله لجملته يسعدنى كما انه اعطانى مكانة عالية فى منطقتى الشعبية . احمد كان حزينا ويبكى كثيرا ولانعرف السبب ونادرا مايضحك ولكنه فى الغالب يرسم ابتسامة باهتة على وجهه يكملها بالسرحان طويلا والتغيب فى عالم آخر يعود به بجملته الراسخة فى اذهاننا والتى تجعل من يسمعها حين يمر عليه يرتعد خوفا من غياب ستر الله . جملة احمد هذه اعادت كثيرين الى الحق والهداية واستهان بها كثيرون ايضا، ولكنها ظلت علامة من علامات حينا وجملة لها حساب وحسبان . فى يوم وانا عائدة من سفر طويل وجدت احمد يضحك ويشير لى بأن اجلس بجواره وجلست وانا خائفة الى حد ما لطلبه هذا الذى يحدث لاول مرة بناء على اشارة منه . جلست وتبسمت له واخرجت من حقيبتى لبس جديد كنت قد اشتريته له من رحلتى تلك ربما طالبة دعاءه لى بالصحة والستر وربما كنت ابغى اعجاب اهل الحى بى عندما يرونه وهو مرتديا حلة جديدة احضرتها انا له. اعطيته الرداء واخرجت سندوتشات جئت بها خصيصا له ، نحى الرداء جانبا معلنا رفضه اياه واقتسم معى الاكل وبدأ فى قطم اول لقمة وبكى بصوت عال وقال ولاول مرة انه يشعر بالحنين لامه ويريدنى ان اصطحبه اليها ، لاول وهلة ارتجفت وحدثنى شيطانى بكل ماهو سىء وطالبتنى نفسى بالابتعاد عنه لانه سيفعل بى كل ماهو أسوأ ، ولكنى قاومت الاثنين وسألته : اين تعيش امك ؟ قال لى وهو يشير الى قلبه : هنا .. واستكمل قائلا كلهم تركونى الا هى اصرت ان تعيش بداخلى ورفضت ان تغادر قلبى ، وانا الان تعبت من حملها فى قلبها واريد ان اخرجها لتعيش بجوارى ومعى ، ساعدينى لكى اعيش معها وليس من خلالها .. بكيت بشدة وانا لاادرى ماذا افعل ، فقال لى الامر اسهل مما تظنين كل ماعليكى ان تفعليه ان تخرجيها من قلبى وتجلسيها بجوارى وتذهبى من حيث اتيتى ..
حاولت ان اطيعه فيما يقول واقتربت ودموعى تنهمر واضع يدى على قلبه واطرقه واقول بصوت يقطعه الالم والنحيب : اخرجى من مكانك الخفى الى الدنيا ، واستكمل كلامى واقول احمد يريدك بجواره .. واصمت على صوت غريب يشبه الحشرجة لاجد احمد ساقطا بجوارى جثة هامدة….