دوما تقذف بى الأقدار الى عوالم تعج بالمشاكل والاختلافات ، ولكن ان تجعلنى وعلى ثلاث ساعات اجلس خلف شخصين يعقدان صفقة لبيع الوطن فهذا الأمر كان جللا وغريبا لدى .
كنت قد قررت الهروب من مشاكل العمل والحياة واختلى بنفسى فى مكان بسيط خرجت به من رحلة عمل طويلة لم اصل من خلالها مثلما وصل أصدقائى من مناصب وجمع أموال وسلطان ونفوذ ، وللحق فلابد ان اعترف بأننى قصرت فى حق نفسى ولم اعمل على تحسين وضعها ودفعها للأمام وقضيت عمرى لإسعاد غيرى .
خرجت من هذه المرحلة بشقة بسيطة فى اخر أطراف مرسى مطروح ، اهرب اليها واعتزل فيها الحياة بمشاكلها ، واعيش فيها اسبوعا اغسل نفسى من اعباء شهور ، وربما سنة من سنين عمرى التى اوشكت على النهايات ، ركبت فى واحدة من وسائل المواصلات الباهظة الثمن كى انعم بطريق لايعكر صفوه أناس متطفلين او مزعجين ؛ وبالفعل فقد كان الركاب على قدر من الرقى مما جعلنى أسارع فى ان أضع على عينى هذه الضمادة التى تحجب عنى الرؤى وتجعلنى فى خلوة مع نفسى تفعل بى ماتريد ….
ولكن يبدو ان من كانا يحتلان المقعدان الأماميان لى رفضا ذلك وأصرا على ان اصدم بأول كلمة من حوارهما وهى : وطن ايه ، وبلد ايه ، اهم حاجه مصالحنا ..
فإذا بى اعتدل فى جلستى واتابع هذا الحوار المشؤم .
عرفت من كلامهما انهما يعملان فى السياسة وأنهما متشددان فى الإسلام ، ويرفضان عمل المرأة وتعليمها ..
ووفقا لمنهجهم ان المرأة خلقت متاع ، والمتاع محرم عليه ان يساوى نفسه بالرجل ، وان تعليمها يقتصر على تعلم القراءة والكتابة لقراءة كتاب الله وتعليمه لأولادها ، ومن الحوار أيضا علمت ان من حق الرجل أن يتزوج كيفما شاء مادام مقتدرا ، وأدهشني أيضا الحديث عن ما ملكت ايمان الرجال .
طريق طويل وكل حديث بينهما يصدمنى ويجعلنى انتبه اكثر وأكثر لهما ولكلامهما ، عرفت مالم يصدقه عقل وسمعت ما تقشعر له الابدان ويشيب الولدان والغريب انهما لم يكونا يخشيان سماع اى احد لحوارهما المريب ، ربما ظنا ان كل فى شأنه وان قلة عدد المسافرين سهل لهما مهمتهما فى الحوار الغريب ، كل مامضى لم يكن مخيفا بقدر حديثهما عن الهوية والوطنية فهما لايقدسان الوطن بل ولايعترفان بالمفهوم من اساسه فقد تحدثا عن ارض الله ، وعن الإمارة الإسلامية ، وان الوطن مفهوم منتقص لان الأرض كلها ملك لله ومن أراد ان يحبه الله فليقم الإسلام على ارضه …
تحدثا عن قطب والبنا وكفاح الأخوة وامال الجماعة الضائعة منذ انهيار سنة حكمهم البغيضة على قلبى ، اكد كل منهما للآخر ان الفساد عم البحر والبر وان ذلك بسبب البعد عن الدين وكدت ان ادخل معهما فى الحوار واسألهم عن سر تقدم الغرب ونجاحهم مع انهم يفصلون الدين عن الدولة ؛ وكنت على وشك ان اذكرهم بمقولة الدكتور مصطفى محمود رحمه الله ان من يسقط فى البحر من مسلم وكافر سينجو منهما من يجيد العوم وليس من يعرف الله ….
وقبل ان افرض نفسى وادخل معهما فى الحوار سمعته يقول لصديقه : عارف لو كانوا خيرونا وقتها بين البقاء فى السلطة وأنهم يخدوا الوطن كله اقسم بالله كنا قلنا خدوا الوطن ..
وقبل ان انهض من مقعدى وانقض عليهما قاما لينزلا فى مارينا ويتركانى اردد وبصوت عالى ربما ليصل صداه اليهم أغنية الغبارى التونسي لطفى بوشناق ….
خدوا المناصب ؛ خدوا الكراس
سيبولى الوطن .