فى واحدة من جلسات العلاج النفسى انتفضت الابنه وانهارت وقالت لطبيبها وهى تبكى : انا بعيد حياة امى بالظبط ، الفرق بينى وبينها انها متعبتش زيى ولا راحت لدكتور نفسى ولا كرهت الحياة زيى .
انا يادكتور كنت ابنة مدللة وسط اسرة كبيرة تجمعهم ام حانية وأب طيب ولكنه حازم الشخصية شديد فى كل شىء . كل يوم يذهب أبى الى العمل بعد أن يتناول فطوره ويأخذ معه غذاءه الذى أعدته أمى فى وعاء يسمى عامود يشبه مانطلق عليه الان الايس تانك او البوكس فود .
يوم طويل تعيشه أمى ونحن غير مباليين بأى شىء حيالها فقط نطلب وهى تنفذ ، ماما : فين الأكل ؟
فين لبسى ؟
عاوزين فلوس ؛ هنخرج ، عازمين صحابنا ، ماما انا تعبان ؛ ماما انا ماليش نفس اذاكر ، ماما انا النهارده عرفت بنت وحاسس انى بحبها، ماما ابن الجيران مشى ورايا وقالى انه بيحبنى وعاوز ياخد منى وعد انى استناه لغاية ميخلص الجيش وييجى يتقدملى ، اقوله ايه ؟
ماما صاحبتى فلوسها اتسرقت وخايفه من اهلها فادينى فلوس أديهالها عشان خاطرى …
ماما انا تعبانه؛ مامى اعمليلى حاجه سخنه عشان الدوره جاتلى وتعبانه اوى ، ماما انا هسافر مع صحابى الساحل واقنعى بابا انى بذاكر مع صحابى ..
هذه كانت حياتها وهؤلاء كانوا بناتا واولادا .. لما نسألها يوما عما تريده ، ولم نهتم بشكواها من الام الوقوف فى المطبخ ، ولاساعات عملها فى المنزل حتى عندما كانت تخرج كيسا مليئا بالادوية اقصى ماكنا نفعله نقول لها سلامتك ربنا يشفيكى ..
فى المصايف كنا نستنزفها ولانرفه عنها وندعوها للنزول معنا الى البحر او حتى حمام السباحة ، وكانت هى على استحياء تذهب للشط وتضع قدميها فى مياه البحر ونحن نضحك مما تفعله لانها لايجب ان تفعله مانفعله نحن الصغار ولم يكن احدا فى صفها سوى أبى رحمه الله فقد كان يلح عليها ان تنزل معنا ومعه البحر ولكنها كانت تنظر الينا وكأنها تخبرنا بأنها تريد منا ان نقوم بهذه الخطوة وبهذا الاجراء معها ولكننا هيهات ان نفعل ذلك .
كبرت أمى وصار عطاءها اقل ثم كبرت أكثر وأصبحت من وجهة نظرنا بلا عطاء ولا فائدة بل مثلت عبئا علينا وصرنا نتقاسم نوبات رعايتها ولكننا لم نكن مثلها ترعانا بحب وتبادر الى تلبية مطالبنا بود وحنان وسعادة ، اعترف نيابة عن اخوتى كلهم اننا تكاسلنا تجاهها بل واصبح يومنا ثقيلا فى خدمتها وتحول الى واجب وفرض دينى ، لم تشكو امى ابدا بل كانت تشكرنا ولاندرى لماذا تشكرنا ونحن لم نفعل واحد على مليون مما فعلته طول حياتها معنا ، ازدادت اوضاع امى الصحية بعد وفاة ابى فاختارت الصمت التام وتركت لنا نفسها نفعل مانريد وصرنا نتأفف ونعطى جزية خدمتها ونحن صاغرون ، شعرت امى مؤكدا بأننا تعبنا من خدمتها بل ربما سرى اليها احساس بأننا نرحب بموتها لتريحنا ونستريح فازداد صمتها ولازمه دموع دائمة تنساب على وجنتيها الدابلتين ، تحكم الحزن من امى فتركتنا ورحلت عن دنيانا ، وبعد ايام من موتها وتجمعنا فى بيتنا العتيق بكى اخى الكبير واخذنا معه فى بكاءه لننهار جميعا ويتخلل حزننا صوت اصغر اخوتى وتقول عاملناها جميعا معاملة لمبة التلاجة وهاهى احترقت وغابت ولم يتبقى سوى بيتنا اقصد تلاجتنا بلا لمبة..
كل كلمات الأسى والأسف لن تكفى وكل محاولاتى انا وأخوتى لتقديم حق الاعتذار لامى فى صورة كثيرة من الصدقات وبناء الأسبلة والتبرع للمستشفيات ودور الايتام وغيرها كل ذلك لم يجعلنا راضين عن أنفسنا وعما فعلناه من تجاهل لها وعدم الاستماع لها والتخفيف عنها والترفيه حتى عندما كانت تحنو علينا وتنطق بكلمة انا بحبكم لم نكن نقول لها مثلما قالت وكأن ذلك حق عليها وواجب ينبغى ان تقوم به .
انطفأت لمبة ثلاجتنا الى الابد ولن نستطيع ان نعيدها وصارت تلاجتنا مظلمة لانعرف ان نحضر أى شىء منها ولا اليها ولا فيها فقد عم الظلام ارجاءها وانفضت على اعقابها وصارت مجرد اثر نطوف حوله ونتحسس بقاياه ونتلمسه ونسترجع مافيه من ذكريات ومشاعر وكلمات ومواقف كانت لنا عمرا سعيدا..
ايها الطبيب هل تستطيع ان تقول لأولادى أن أمهم نادمة على عدم عنايتها بلمبة ثلاجتها الفانية وعليهم ان يحافظوا على لمبتهم الحالية ؟
ام انه لابد ان يكون عقابى من نفس عملى وعذابى من نفس ما ذاقته اللمبة الام ؟؟!!!