كنت أسير طوال حياتي ومنذ طفولتي بجوار الحائط وأحيانا بداخله، لكوني شخص مسالم ،أبغض الاصوات العالية والفوضى، لا أحب المشاكل والمشاحنات ..
أتجنب النقاشات الحاده، ليس عن ضعف مني ولكن لا أقبل أن تُستنزف طاقتي في مهاترات لن تجدي كما أنني أخشى أن يغضب مني أحد أو اتسبب في إيذاء غيري -حتى ولو نفسيا- لاختلافه معي في وجهات النظر،و كنت أعتقد أن هذه التفاصيل من مقومات الحياة المستقرة الهادئة التي تصنع بيوتاً ناجحة…!!
كبرت وتزوجت وانجبت وأخذتني دوامة الحياة عاما وراء عام، أسير على نفس المنظومة التي نشأت عليها واعتنقت أفكارها ، حتى مر عشرون سنة، لأكتشف فجأة أنني تحولت إلى “مسخ “، إنسان مجهول الملامح مفعولا به منصوباً على طرقات الحياة ، وأصبحت حياتي كما وصفها “إيريك فروم”عالم النفس الشهير – متحدثا عن “إنسان اليوم”-…
“أنني تحولت لمشروع تجاري وحياتي على الارض رأس ماله ومهمتي في هذه الحياة استثمار رأس المال هذا قد الإمكان”.
توجهت إلى غرفتي وفتحت حقيبتي وأخرجت منها بطاقتي الشخصية، لأفاجأ بأن عمرى تعدى الأربعين ببضع سنوات ،صَمَتُ قليلاً واغلقت الباب غلقا محكماً وبدأت أحاور نفسي بلهجة قاسية…
ماذا فعلت طوال هذه السنوات من عمرك ..!!
ما حجم الانجازات الشخصية في حياتك ..!!
لماذا تشعرين بهذا الكم غير المحتمل من الوجع وتختزينه بداخلك ويصيب قلبك بغصات متتالية ..!!
ألا تستحقين قليلا من مشاعر السعادة الحقيقية مقابل هذا الجهد المبذول..!!
هل يمكن تصحيح المسار والعودة لانسانيتي في العقد الخامس من عمري؟
وكانت الاجابات على تلك الاسئلة واحدة دون تغير ..”الصمت”..!
وبدأت تتكرر الخلوات بنفسي وتتزايد الأسئلة وتتماهي الحقائق المؤلمة أمام عيني لتتكشف أمامي الحقيقة الموجعه ..
لقد تحولت ل”شئ”..!!
نعم أصبحت مجرد” شيئا ” فاقداً للمشاعر والأحاسيس والأحلام , لا ينتابه سوى احساس وحيد وواحد”الوجع”..!!
ماتت احلامى وتناءت طموحاتي واختزلت متطلباتي في مطلب واحد ” نوما هادئا خالي من آللام عضم الرأس” دون توتر أو قلق …
ومنذ تلك اللحظة قررت أن أعالج نفسي بنفسي أتحدث معها لأعرف ماسبب إيلامها وآرقها وغضبها المستكين وأحاول أن اطيب خاطرها وأمنحها قبلة الحياة مرة أخرى لعل في العمر بقية لها ..
وفكرت كثيرا في القرار الذي قد يسير بها على طريق الرجوع إلى النفس الانسانية ومتطلباتها البسيطة المريحة وفي رحلتي لاسترجاعها ممن اختطفوها ،وجدت نفسي كمن يفتح جروحاً مقرحة ملتهبة تم تسكينها عبر سنوات كي تسير الحياة لكنها لازالت تنزف ألماً..
وأيقنت أن الألم سيكون لا يطاق وغير محتمل وبدأت أقارن بين ألمي في هذه المرحلة والألم الذي سينتج عن فتح وعلاج الجروح العميقة القديمة، وقضيت وقتا طويلا في التفكير والمقارنة بين الوجعين ، وجع ماقبل القرار ووجع مابعده ..
لكننى في النهاية اتخذت القرار وفتحت جروحي بأكملها ،الغائر منها والسطحي ،وداويتها وعاهدت نفسي ألا أسمح لأحد بأن يطعنني ثانية برغبتي وبإرادتي واقسمت على نفسي بجلال الله العظيم ألا أتناول المسكنات النفسية وأن اقاوم كل ما يؤذيني وفعلت…
فعلت من أجل أن اشعر أنني لازلت أنسانا وليس شيئا يستخدمونه ..
قد أكون تألمت وعانيت وتوجعت فوق التحمل ..
لكنه “وجع شريف”…
وجع هادف لإعادة بناء إنسان يستحق أن يعيش بمشاعره وأحاسيسه واحلامه وطموحاته .
ورجعت …