بهذه االكلمات التى لم استوعبها حينها كانت جدتى لامى تنهى زيارتها عندنا وهى تتبسم وتردد : ياولاد مسير الغريب مفارق ومسيره مروح بلده.
جدتى بكلماتها هذه كانت تعيد بيتنا الى ماكان عليه وتسير بنا دورة الحياة لتأتى جدتى مرة اخرى محملة بكل مسرات الحياة وانعمها وتبهج منزلنا بضحكاتها وحكاياتها الجميلة وحواديتها اللذيذة وحديثها الطيب ،لتأتى لحظة الفراق ونفشل فى محاولتنا اخفاء اشياء جدتى حتى لاتتركنا لتنهى كل مافعلناه بكلماتها الحازمة وهى تبتسم ولكنها عينيها مليئة بالحزن .
كنت فى هذه المرحلة طفله لايتعدى عمرى السابعة ولم استوعب ماتعنيه هذه الكلمات ولكنى كنت قد فسرتها بأنها ستعود الى بيتها فى قريتنا القريبة من محل سكننا حينها ولم تأت جدتى بعدها ورأيت الحزن قابعا فى اعين امى ومواساة ابى وبكاءه على جدتى وكنت لاول مرة ارى ابى يبكى فهو كان دوما قويا صلبا دائم الضحك والتبسم ، تساءلت عما يحدث فكان الرد بوفاة جدتى وبأنها لن تزورنا مرة اخرى ولن نراها الى الابد .
كان هذا الحزن هو الاول الذى زار بيتنا وترك بصماته المميتة على جدران قلوبنا .
تمضى الحياة ليطرق الموت باب بيتنا بقوة واسمع بكاء امى وهو يرج اركان بيتنا لأعلم ان خالى وحيد امى التى لم تكن لها اخت ولا اخ غيره قد انتقل لجوار جدتى كنت حينها فى الثانوية العامة وادركت معنى الموت القاسى المر الطعم وخاصة عندما ارى حرص امى على اخفاء حزنها وابتلاع دموعها حتى توفر لى جو يمكننى من المذاكرة حتى اتفوق فى هذه السنة التى عقدت عليها امالى وامال اسرتى الطيبة .
وتمضى السنون ليزورنا الموت ويقتلع رب اسرتى وحبيبى ومعلمى ابى رحمه الله لتصبح حياتنا بعدها مكسورة النفس ونتحول الى كائنات فاقدة العزوة والامن والامان ويأبى الموت ان لا يداوم على زيارتنا ويبدو انه استأنس قبولنا له ورضاءنا بزياراته القاتلة فيأتي هذه المرة ويخطف زوج اختى حسين الذى كان اخا لنا طيبا حنونا محبا لنا حاملا على عاتقه ادخال السعاده فى قلوبنا بكافة الطرق ، اكتفينا باحزانا وظننا ان شبح الموت قد اكتفى هو الاخر ولكنه جاء هذه المرة قويا ماردا لينتزع فلذة كبدى ويأخذه منى وهو لايزال صبيا لم اشبع منه ولم ارتوى حتى الثمالة والكفاية ، بموت ابنى ادركت طعم الحزن الحقيقى وتيقنت ان اعظم ابتلاء هو ان تدفن ابنك بدلا من ان يدفنك هو …
وبموت ابنى اصبحت فى حالة من الحزن اسعى جاهدة ان اخفيها حتى اواصل مسيرة الحياة مع ابناى ايمن وانجى ، ومع كثير من التغييرات السلبية فى بيتى الا اننى اجمع شتاتى واواصل المضى فى درب الحياة راضية بكل نعم الله والضراء قبل السراء ولكن يريد الموت ان يذيقنى طعما اخر لم اذقه وكنت اتمنى الا اذوقه وهو فقد اختى الكبيرة فى فجأة مننا كلنا لتنفرط حبة العقد الاسرى وترن فى اذنى وانا اقبل رأسها مودعة اياها الى مستقرها الاخير ترن كلمات جدتى وهى تقول مسير الغريب مروح داره ومسيره مفارق لافهم ساعتها ماكانت تعنيه بان السفر ليس من مكان الزيارة الى مكان الاقامة وان الفراق ليس فراق جزئى ولكنه ابدى وان الديار هى ديار الخلد والاخرة …