عاهد نفسه منذ ان اصبح شابا ان يعطيها التفاؤل ويتجاهل كل الاشياء السيئة؛ وعلى الرغم من تعبه من هذه السياسة المتبعة وايضا من حقد البشر عليه الا انه لم يتراجع خطوة عن التعامل بها. كان أشرف وحيد ابويه يعيش فى ارقى احياء مصر الجديدة واعرقها تلك التى كانت مكان للاجانب فقط ولكون ابيه واحدا من المهندسين الذين خططوا ونفذوا لميلاد مصر الجديدة فقد منحه البارون امبابى واحدة من الشقق فى المولود الجديد ، امه كانت اسكتلندية وقعت فى حب ابيه وهو ايضا وتزوجا رغم رفض اسرة ابيه لهذه الزيجة ومقاطعة واعلان عصيانه وحرمانه من كل متاع الحياة الرغدة التى تنعم بها اسرته ، يحكى له ابيه ان امه بكت كثيرا لرفض اسرته زواجه منها وعرضت عليه الانفصال حتى يعود الى حضن الثراء والحياة الرغدة التى تنعم بها عائلته لكونهم من اعيان الدقهلية ولكنه تمسك بها ولم يندم يوما على قراره ولاهى ايضا. كانت امه تعشق ابيه وتتفنن فى اسعاده وتحقيق كل مايحبه ويجعله متفوقا فى عمله ؛ وكانت امه تعشق اللون الابيض وتفضله عن كافة الالوان لذا فقد اصبحت كل حياتهم بيضاء اللون والمعالم حوائط المنزل بيضاء اساس البيت ابيض حتى عندما اشتروا سيارة كانت بيضاء ارضاء لها ، ملابسهم كلها ابيض لدرجة ان الجيران اطلقوا عليهم بيت الفل .. فى بيت كهذا البيت كانت الحياة تمضى بصفاء وحب وعزلة الى حد ما نظرا لاختلاف ثقافة الام وحرص الاب على الا يسبب لها اى احراج او ازعاج .مضت سنوات واشرف يعيش وسط اسرته الصغيرة متشبعا بكل معانى الحب والسعادة ؛وفى يوم استيقظ على صوت ابويه يتعاركان اعقبه بكاء امه والتقط بعض المفردات توضح اصرار امه على الرحيل اعقبه خروج ابيه من البيت صافعا وراءه الباب بعنف لم يعرفه منذ ان وعى الحياة فى هذا البيت المبنى على الحب والتسامح . لم يعد ابيه الى البيت فقد لقى مصرعه فى انقلاب سيارته وبالطبع تأكد اشرف ان موت ابيه ناتج عما حدث مع امه التى صعقت عند سماع الخبر وسقطت مغشيا عليه محملة نفسها سبب موته .
فى عزاء ابيه رأى كل اسرة ابيه التى لم يرها عمره وكم كانوا سعداء برؤيته واحتضانه مع تأكيدهم انه نسخة من ابيه ، مضت ايام قليلة اعلنت فيها اسرة ابيه انها ستأخذه معهم الى موطنهم فى المنصورة وخيروا امه بين البقاء فى بيتها والذهاب معهم من اجل خاطر اشرف ليس الا ، رفضت امه ترك بيتها ورفضت ايضا ان يأخذوا منها ابنها وهددتهم باللجوء الى سفارة بلدها لحمايتها منهم وحينها اعلنت الحرب بين امه واهل ابيه ونطق لاول مرة فى بيت لم يعرف الجدال والصوت العالى ابدا الا مرة وحيدة كان حصادها الموت ، نطق راجيا اهله ان يتركوه مع امه مع وعد منه ان يذهب اليهم كل اخر اسبوع ويبيت عندهم لمطلع الاسبوع القادم واكمل حديثه بأن بيته مفتوح لهم فى كل وقت يأتوا ويذهبوا كيفما شاءوا وارادوا.. بهذا الاتفاق مضت الامور لوقت ما وبين الحين والاخر تتجدد مطالبة اسرة ابيه بالعيش معهم وتقابل بتجديد ماقاله لهم .لاحظ اشرف حزن امه المتزايد على ابيه وانعزالها اكثر مما كانت عليه وزاده مايسمعه من حديث امه لابيه وكأنها تراه وكأنه لم يمت .فى بداية الامر ظن انها تعيد الذكريات ولكنه لاحظ انها تتعامل مع ابيه كما لو كان حيا وسألها ذات مرة عن هذا السلوك ولماذا تفعل ذلك وجاء ردها مزلزلا له فقد تأكد ان امه ترفض تصديق ان اباه تركها وترك الحياة وانها تعيش معه كما لو كان مازال على قيد الحياة ، منذ ذلك اليوم وتحولت حياة اشرف تحولا كليا فقد كان مطالبا بمجاراة امه فى حوارها مع ابيه وتنقلاتها معه وتحقيق مطالبه التى تمليها عليه امه ، اصبحت سعادة امه فى ان تعيد دورة الحياة بنفس طريقتها عندما كان ابيه على قيد الحياة ، حاول جاهدا ان يخفى ماتصنعه امه عن اهل ابيه لانهم فى هذه الحالة سيصرون على نزعه منها وايداعها واحدة من دور الرعاية النفسية او مستشفى المجانين كما يطلق عليها .حياة عصيبة عاشها جعلته يبقى فى البيت لايخرج منه الا للضرورة القصوى كالدراسة او شراء متطلبات المنزل او صرف معاش ابيه الذى وكلته امه لذلك قبل مرضها الغريب . انهى دراسته وصار كأبيه مهندسا وفى يوم تخرجه وعودته الى البيت وجد امه ترتمى فى حضنه وتبارك له النجاح والتفوق وعندما سالها كيف عرفت اشارت الى ابيه واكدت له انه ابلغها بذلك وطلبت منه ان يحتضن ابيه ويشكره على مجهوده معه طوال سنين تربيته التى لم يبخل فيهم عليه بكل مالديه من مال وجهد وبالفعل ذهب اشرف واحتضن الهواء ليرضى امه التى تهللت ملامحها وحاولت ان تزغرد وهى تقول من زمان وانا نفسى اعمل الحركة ديه اللى بيعملوها المصريين ويضحك اشرف ويعود اليها من جديد ويحتضنها بقوة ويبكى بكاء حارا ..وامتدادا لرصيد ابيه الوظيفى والانسانى يتم تعيينه فى نفس الشركة التى كان يعمل فيها ابيه وسط ترحيب من الرعيل الذى كان صديقا لابيه الراحل صاحب السمعة الطيبة والاصل الطيب والسخاء المادى فقد كان ابوه سخيا مع كل الناس لدرجة انه عندما توفاه الله جاء الى بيتهم كثير من البشر وكلهم يردون اموال قد استلفوها من ابيهم وهذه الاموال مكنت احمد وامه من العيش عام كامل دون مد ايديهم على اية اموال اخرى سواء من معاش ابيه او من هبات اهل ابيه .
مع مضى الايام ازدادت معاناته مع عذاب امه برفضها تصديق رحيل ابيه ورفضها الذهاب الى الاطباء او حتى السماح لهم بالكشف عليها فى المنزل وحينما كذب عليها ابنها واتى بطبيب واهما اياها بانه صديقه ويريد الحديث معها انهت اللقاء وعادت الى حجرتها حزينة . رضى اشرف بهذه الحياة رافضا الزواج معلنا بذلك معاداة اهل ابيه له لانهم يريدونه ان يتزوج وينجب لهم خلائف تمد وتمتد باغصان عائلتهم العريقة .كان حبه لامه يغنيه عن كل مافى هذه الحياة وحرصه على اسعادها من اجل اسعاد ابيه فى اخرته هدفا يحرص عليه كل الحرص .فى يوم شتوى من الايام التى كان يفضلها ابيه من موسم الشتاء الذى كان يعشقه وجد امه فى سريرها متبسمة الوجه جميلة كما لو كانت عشرينية العمر قبلها على خديها كما اعتاد منذ الصغر وفوق رأسها وطلبت منه ان يجلس معها وظلت تقص له ذكريات وحكايات
بعض منها يعرفه والاخر جديد عليه ولكى يرضيها نظر الى الناحية الاخرى مخاطبا ابيه لاشراكه فى الحوار واخذ رأيه ، ولم يجد استجابة لامه التى التقطت يده وقبلتها وهى تقول له انا متشكرة يااشرف انك صبرت عليا ومزعلتنيش انا ياااشرف عارفة ان ابوك مات بس انا مقدرتش امحيه من المكان ولامن قلبى وكان لازم اعيش بيه ومعاه لانى رافضة اى حياة من غيره ، باباك مكنش محرد زوج ده كان اكسير حياتى والمرة الوحيدة اللى اختلفنا فيها كانت لانه قالى ميقدرش يعيش من غيرى لحظة وانا اصريت على انى اسافر اسبوع واحد اشوف اهلى ، تخيل يااشرف انه حبنى لدرجة انه مش هيقدر يتخيل الشقة والمنطقة كلها من غيرى .. صمتت امه وبكيا معا واستكملت حديثها وهى تنصحه بالتفاؤل واخذ عظته من تناوب الليل والنهار مهما حدث وقالت له وهى تضحك كل ماتحصل حاجه قول دايما وانت متفاءل نقول صباح الخير عشان تنهى الليل وتستقبل النهار…