كانت نافذتها مواجهة لنافذتنا فى بيت ابى العتيق المعبق بالذكريات والحياة . قلت لأمى وأنا صغيرة أنا بأراقب ابله جميله من ورا الشيش ، فصدمت وقالت لماذا تفعلى ذلك ؟
كده عيب وحرام .
فلم استطع ان اخبر امى عن سبب متابعتى لابله جميله التى استمرت اعواما ، كنت انتظر قدوم الليل واتلصص من وراء النافذة واراها تقلب البوما وكلما قلبت صفحة تبكى وتنتحب ويعلو صوتها حتى تنتهى من تقليب الالبوم وبعدها تغيب لوهلة ثم تعود تفرش مصليتها وتصلى وأسمع صوت نحيبها وهى ساجدة . لم أكن أدرى سر بكاءها ولكن كنت منبهرة بمواظبتها على اداء مراسم البكاء كل يوم على مدى خمس سنوات كنت فيها أعيش معها يوما بيوم واصنع قصص وروايات تشرح لى سر بكاءها وسر الالبوم الذى يدخر لها كل هذا الكم من الالم .
جميلة كانت اجمل فتيات المنطقة نصفها ارمينى عن امها والنصف الاخر مصرى يصف ملامحها التى جمعت النقيضين فى شكل وجسد واحد ، يقال ان ابو جميلة كان دبلوماسيا مصريا التقى بأمها خلال عمله فى السلك الدبلوماسى ووقع فى هواها ووفقا للقيود الدبلوماسية اجبر على تقديم استقالته حتى يستطيع ان يتزوجها.
وبزواجهما تغير حاله وتغيرت معيشته فترك الزمالك لضيق العيش وانتقل الى الاميرية حيث عاشا معا فترة ليست بالطويلة ، اشتغل بالتدريس حتى يقدر على الانفاق، وام جميلة ايضا عملت فى مدرسة لتعليم فن الباليه ، وبعد مرور سنوات لم تكتمل عشرا اصبح الجيران يستيقظون على صوت ابو جميلة العالى وبكاء امها والنحيب المتواصل ، واصبح هذا المشهد ركنا اساسيا فى المنطقة حتى انه اذا انتصف الليل ولم يسمعا هذا الثنائى كانت المنطقة تضرب اخماس فى اسداس متساءلة عن السر فى عدم تكرار المشهد المعتاد. فى يوم استيقظت الاميرية كلها على صراخ ابو جميلة من النافذة مناديا عليها سائلا عنها كل الجيران ، وغابت ام جميلة ولم يعرف احدا اين ذهبت ، البعض قال انها هربت مع فلان ، واخرون قالوا انها يئست من اصلاح حال زوجها فقررت العودة الى بلادها ، فقط ابنتها هى من كانت تحمل سرا وترفض الادلاء بأى شىء عن امها مع تعاملها مع ابيها بخوف مبالغ فيه .
جميلة كانت اجمل مافى المنطقة لم تكد تبلغ عامها الثامن عشر وفارت انوثتها وصارت مطمعا لكل الشباب بعضهم يعرض عليها الزواج واخرون يساومونها عن نفسها وشرفها ، وللحق كانت فتاة عفيفة ترفض حتى القاء السلام على اى فرد ، فى الصباح تذهب الى الجامعة وفى اخر اليوم الى مدرسة الباليه تكمل مابدأته امها بكل شغف وحب . انهت تعليمها الجامعى وقدمت اوراقها للالتحاق فى السلك الدبلوماسى ونجحت كمترجم للغة الارمينية فى الخارجية المصرية . انتابت جميلة حالة من التغير واصبح وجهها يشع حبا ونورا مثل الذى يوصف به العاشقين . غبت انا عن منطقتنا وسافرت للخارج برفقة زوجى واخذتنى الحياة والحمل والانجاب وظلت رغم ذلك ملامح جميلة لاتفارقنى وبكاءها يطن فى اذنى ، وتأنيب امى لى بسبب متابعتها يحتل مرحلة من حياتى . عدت الى بيت ابى فى اجازة طويلة فقد مات ابو ابنائى ولم ارد ان اعيش فى شقة الزوجية لانها فى بيت اهله الذين وضعوا شروطا وحدودا لى ولاولادى فى كل خطوة وبعضهم عرض الزواج من منطلق احنا اولى بولادنا من الغريب ، عندما عدت الى بيت ابى كنت فى قمة السعادة لاننى سأكون بجوار جميلة وسألت امى عنها ونظرت لى نظرة غريبة وقالت .. انتى مش هتبطلى اللى عملتيه زمان عيب عليكى انتى كبرتى وبقيتى ام وولادك لو شافوكى بتعملى كده صدقينى اول مهيتجسسوا هيكون عليكى انتى، لم اعلق على ماقالته امى وقبل ان اسألها عن جميلة اجابت وقالت ،، عزلت ومحدش عارف مكانها ، استريحتى . بالطبع لم استرح ، حزنت جدا حزنا اضاف الى حزنى على وفاة ابو اولادى احزانا اخرى .
بعد فترة ربما اكملت عاما وانا فى طريقى لتوثيق اوراق سفر ابنائى معى الى دولة اوربية للعمل وللدراسة لمحتها هناك وكأننى طفلا وجد امه بعد ان فقدها فى سوق غلال ، جريت اليها وقلت لها ابله جميلة ازيك ، لم تعد كما كانت ولكن لايزال بعض من جمالها يترك اثاره على ملامحها وخاصة عينيها الجميلتين الى ابعد الحدود، ردت على الفور ورحبت بى وانهت لى كل الاوراق فى وقت قياسى ، ودوامت على زيارتها وهى ايضا وحزنت على ماألم بى من مصاعب اجبرتنى على الاعتزام على ترك الوطن كله لاهل المرحوم زوجى ينهبون منه مايطمحون اليه ، فى يوم وانا اجلس معها حكيت لها عما كنت افعله وتجسسى عليها ، فنظرت لى وقالت كنتى ترى دموعى وتراقبى احزانى التى لم تنته ولن تنتهى ، فانتهزتها فرصة لتريحنى وتحكى لى سبب حزنها وماسر الالبوم الذى يبكيها ويحيل ليلها بكاء وحزنا . نظرت بعيدا وكأنها تستعيد الماضى وقالت ،،البوم ذكرياتى كلها ففيه صور امى التى قتلها ابى ودفنها تحت سريرى وهو يظن اننى نائمة ، قتلها وهو يبكى ودفنها وهو يئن ويطلب منها السماح لانه لم يستطع ان يحقق لها نفس المستوى الذى عاشته فى بيت ابيها وايضا لايستطيع ان يتركها تذهب بعيدا عنه فقرر ان يقتلها حتى لاتعيش مع اى انسان غيره ، امى كانت تحبه جدا وكانت تقول لى انها لن تتركه ابدا فقط تريده ان يحسن معاشرتها ولايسىء لها ولايضربها ..
بوفاة امى اسودت الحياة امامى واصبحت اخاف من ابى ومع ذلك كنت اخاف ان ابلغ عليه البوليس فيعدم واعيش مقطوعة الجذور ، عشت حزينة ممزقة بين ذكريات امى والمى على نحرها كما الحيوانات ونظرة ابى لى التى تظن اننى لااعرف انه قتل امى ، وفى يوم لم اعد اتحمل عذابى من اجل امى ولانظرات ابى الواثقة فقررت ان انهى هذا العذاب ووضعت لابى المنوم وحفرت مكان دفنه امى تحت سريرى الحزين ووجدت بقايا امى فقبلتها وبكيت كما لو كانت قتلت بالامس وليس منذ عشر سنوات ووضعت ابى بجوار بقاياها وغطيته واعدت تبليط المكان وحرصت كل يوم على ان ارش الفنيك بكثرة كما كان يفعل ليوارى سوأة امى ويمنع انتشار رائحة موتها ، وبعد يوم اعلنت ان ابى سافر لاهله وسيمضى عندهم وقتا وبعدها لم يعد ابى لانه استقر به المقام عند اهله وانا لن استطيع اللحاق به لطبيعة عملى ..